فرصة سوريا- ذكاء المعارضة وثورة متجددة في الشمال.

العملية العسكرية التي بدأتها قوى المعارضة السورية في شمال البلاد، أثارت عديدًا من التساؤلات الهامة حول قدرة فصائل المعارضة على تحقيق نصر حاسم يقود إلى انهيار سريع لقوات النظام السوري في مختلف المدن، وذلك دون الحصول على أي دعم أو مساندة خارجية. بل إن بعض المراقبين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث شككوا في العملية برمتها، بالنظر إلى التوقيت الذي تم الإعلان عن انطلاقها.
إلا أن هذه المعطيات نفسها يمكن أن تشكل أساسًا لقراءة مختلفة، تحتفي بالثورة السورية وتضحيات الشعب السوري، وتعيد تسليط الضوء على الدور المحوري الذي لعبته إيران في دعم النظام السوري، ممّا يستوجب عليها وعلى حلفائها في المنطقة مراجعة شاملة لتدخلهم في سوريا، وذلك بهدف التخلص من التداعيات الأخلاقية الناجمة عن هذا التدخل. فالدفاع عن الحقوق المدنية للفلسطينيين لا يبرر بأي حال من الأحوال التدخل السافر في شؤون دول أخرى، وفي مقدمتها سوريا.
براعة إستراتيجية
تتجه الأنظار حاليًا نحو الدور الذي تلعبه تركيا في العملية التي أطلقتها المعارضة السورية تحت اسم "ردع العدوان"، والتي أسفرت عن انهيار كبير في صفوف قوات النظام السوري والأطراف المتحالفة معه في عدة مدن. وقد وُجهت اتهامات لتركيا باستغلال انشغال إيران بالتوترات الإقليمية، وكذلك انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، لتقديم الدعم لعملية المعارضة في الشمال السوري. إلا أن هذه القراءة تعتبر اختزالًا مفرطًا للواقع، وتتجاهل الديناميكيات المعقدة للصراع السوري في المنطقة على مدى السنوات الماضية.
لا ينبغي لنا أن ننسى أو نتجاهل حقيقة أن الشعب السوري قد ثار في عام 2011 ضد نظام قمعي لا يضاهيه نظام آخر في المنطقة. ولكن هذا الشعب، الذي طالب بالحرية والكرامة، وجد نفسه محاصرًا بين نيران الصراعات الإقليمية والدولية، ممّا أدى إلى نزوح الملايين من السوريين نحو الحدود التركية والأوروبية ودول المنطقة الأخرى. وكانت تركيا هي الدولة التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين السوريين الفارين من الحرب، ولكنها في الوقت نفسه كانت الأكثر تضررًا من تبعات هذا النزوح، الذي أدى إلى تداعيات سياسية واجتماعية خطيرة في الداخل التركي، تجسدت في تصاعد وتيرة العنصرية وتفاقم الاستقطابات الداخلية.
لا شك أن مصالح المعارضة السورية تتقاطع مع مصالح تركيا في تحقيق عودة آمنة وكريمة للنازحين إلى ديارهم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار المعارضة السورية مجرد أداة في يد تركيا، فالثورات بطبيعتها هي مسار طويل الأمد يتميز بديناميكيات متغيرة ومعقدة، تتأثر بالسياقات المختلفة ووضع الفاعلين فيها، سواء كانوا داعمين لها أو ساعين إلى إخمادها.
ولكن في الوقت نفسه، فإن التكاليف الباهظة التي تحملتها تركيا، في ظل تقاعس العديد من الدول عن الوفاء بتعهداتها، قد تفرض عليها، انطلاقًا من دوافع وطنية خالصة، استغلال الظروف الحالية لصالحها. وتتجلى هذه الظروف في انكشاف هشاشة القوات السورية، نتيجة لانشغال حلفاء النظام السوري في مناطق صراع أخرى.
وبالنظر إلى الأحداث السابقة، فإن رفض النظام السوري للدخول في مفاوضات جادة بهدف تحقيق عودة النازحين وانتقال سلمي للسلطة، قد شجع المعارضة على إطلاق عمليتها العسكرية. كما أن هذا الرفض قد يضفي نوعًا من الشرعية على التدخل التركي، نظرًا للتداخل الجغرافي بين تركيا والشمال السوري، ودعمها المادي والسياسي للنازحين على الحدود وفي الداخل التركي. فالمسألة، حسب هذا التصوير، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي التركي.
لذلك، فإن ما جرى ويجري، سواء كان بتخطيط مستقل من المعارضة، أو بإيعاز تركي، فإنه يعكس براعة إستراتيجية، ويخدم القضية السورية في نهاية المطاف، بل إنه يمكن أن يمثل انبعاثًا جديدًا للثورة السورية برمتها، ويعيد طرح أسئلة التغيير التي أطلقتها ثورات الربيع العربي.
إننا بالتأكيد لسنا أمام ثنائيات وصفية مقتضبة أو أحكام جاهزة يتم إطلاقها على الفاعلين السوريين لأغراض التعبئة والحشد المضاد، بل نحن أمام ديناميكيات متداخلة تستثمر في اللحظة الراهنة وظروفها المتعلقة بالسياقين الإقليمي والدولي ومتغيراتهما، بهدف خلق مساحات جديدة للضغط والتفاوض على أرضية موازين القوى المستجدة على الأرض، من أجل معضلة ملايين السوريين وعودتهم إلى ديارهم، وتقويض أركان نظام فقد كل أسس الشرعية.
أما القوى الداعمة للنظام، فإنها في أمس الحاجة إلى مراجعة شاملة لتدخلها في سوريا، وربط هذا التدخل بالقضية الفلسطينية، حتى لا يكون ذريعة لتبرير الممارسات اللاأخلاقية التي تورطت فيها على مدى عقد ونيف.
العملية الأخيرة في الشمال السوري تمثل فرصة سانحة لإعادة صياغة أسئلة الثورة السورية، في ظل مشهد إقليمي ودولي يمنح المعارضة آفاقًا جديدة للتحرك
يثار على هامش السيطرة على حلب وإدلب كم هائل من الردود والاتهامات المعلنة بشأن ما يجري، وبين طيات كل تلك الاتهامات يتم تجاهل مآسي السوريين الممتدة في الزمان والمكان على الحدود، وفي الذاكرة مع مشاهد الخراب والموت الجماعي بأفتك الأسلحة، ولا يكاد يتم ذكرهم إلا باعتبارهم تهديدًا لمشروع المقاومة، وكأن القبول بما يسمى "مشروع المقاومة" يستلزم التنازل عن الحرية والعيش الكريم، بل والقبول بالتهجير من الوطن.
هذا الضرب من التبريرات يمثل اغتيالًا معنويًا لحق شعب في التطلع نحو الحرية والكرامة، ويحمل أزمته في ذاته أولًا، ذلك أن هذا الفكر شمولي بطبعه ويصادر التعبيرات والتصورات السياسية والفكرية الأخرى، فهو قائم على المفاصلة مع باقي الآراء، لذا يمكن اعتباره تطرفًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى,بغض النظر عن العمامة واللون السياسي والمذهبي الذي يعبر عنه.
يكفي القول هنا، إن إرساء الديمقراطية في سوريا وغيرها من الدول العربية، سيعد بلا شك أكبر انتصار للقضية الفلسطينية وللتحرر والسلام عمومًا، ذلك أن شعوب المنطقة لديها ميل فطري إلى عدالة القضية الفلسطينية، وتعتبرها على رأس أولوياتها وفي مقدمة قضاياها.
لقد شكل الانخراط في وأد الثورة السورية ضربة موجعة لأخلاقيات ومصداقية الادعاءات الخطابية التي يقوم عليها ما يسمى "مشروع المقاومة"، حيث عدّت النزعة الدموية للنظام السوري وحلفائه تقاطعًا موضوعيًا مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى التي كانت معادية للتحرر في المنطقة.
لم يكتفِ حلفاء النظام بإخماد الثورة في مهدها بأساليب وحشية وغير مسبوقة، بل تفيدنا المعطيات، بأنه تم العمل على إحداث تغيير جذري في النسيج الاجتماعي والديمغرافي لمنطقة الشام، فعملية التهجير القسري التي تعرض لها السوريون كان يوازيها توطين مضاد في المقابل، انطلاقًا من خلفيات مذهبية أو طائفية ضيقة.
وباختصار، فإن البعدين القومي والطائفي ظلا يوجهان أولئك الحلفاء في سوريا، والانتصار للنظام من هذا المنطلق يشكل من دون شك إثارة للنعرات الطائفية وتأجيجًا للصراعات المذهبية، بينما كان الأفق التحرري قادرًا على استيعاب جميع الأطياف والفئات.
هذا العمى الإستراتيجي الذي وقع فيه هؤلاء، ينبغي ألا تقع فيه المكونات الأخرى في سوريا مستقبلًا، إذ لا بديل عن أفق رحب يستوعب النسيج المجتمعي التعددي بطبيعته، ويمنح الناس أثمن ما يملكون، ألا وهو حريتهم.
إن عمل كل الأطراف الخارجية ضد الثورة السورية والشعب السوري في مسيرته المؤلمة والقاسية، كان بمثابة جريمة نكراء، مهما كانت المسوغات التي قدمها حلفاء النظام السوري. ومن ثم فإن أي دعم لنظام بشار الأسد في السياق الراهن سيكون بمثابة جريمة أكبر، ينبغي تجنبها ومراجعتها. فلا يمكن رفض الهيمنة من جانب ومناهضة حرية شعب من جهة أخرى، كما لا يمكن أن يجتمع في قلب فرد أو كيان حب الأقصى وفلسطين، والدفاع عن مستبد سفاح.
توطين الديمقراطية في سوريا والدول العربية، سيعد حتمًا الانتصار الأكبر للقضية الفلسطينية وللتحرر والسلام في المنطقة، ذلك أن شعوب المنطقة لديها ولاء فطري لعدالة القضية الفلسطينية، وتعتبرها في صدارة اهتماماتها وقضاياها المصيرية
تلك التناقضات الصارخة تفرز بالضرورة أزمة أخلاقية عميقة، وقد قدمت القضية الفلسطينية في هذا الصدد فرصة ثمينة لذلك الفريق لممارسة نقد ذاتي شجاع، يعالج المعضلة الأخلاقية الناتجة عن الجمع بين شرف الدفاع عن الأقصى ومناهضة العدوان من جهة، وممارسة العدوان في الآن ذاته ضد شعب ينشد الحرية والكرامة من جهة أخرى، وهو ما يرقى في واقع الأمر إلى درجة الإرهاب.
فمعارك التحرر الكبرى تنتصر بقيمها الأخلاقية أولًا وبما تحوزه من مشروعية الدفاع عن الحق، وإن كانت أدواتها ووسائلها بسيطة، وكذلك كان الأمر في كل التجارب التحررية عبر التاريخ.
ختامًا: إن استحضار هذه الجوانب في سياق المبادرة التي أطلقتها المعارضة السورية – رغم التحفظ على بعض مكوناتها- والتي تزامنت مع اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، يدفعنا إلى الاعتقاد الراسخ بأهمية ممارسة إيران وحزب الله مراجعة نقدية عميقة لأدبياتهما الفكرية والسياسية، وإعادة تقييم تموقعهما السياسي في سوريا، وذلك بهدف تخفيف حدة التوتر والصراع وتحقيق الاستقرار المجتمعي المنشود في كنف الحرية والديمقراطية.